سلة الخبز / بقلم ابراهيم سنان
... في بيت صغير تقف الأم في المطبخ وهي تحضر طعام الفطور للعائلة التي بدأت تتبعثر حركتها في الصباح. فكل منهم يصيح في كل مكان أين حذائي أين قميصي
... وفي ذلك الركن الرطب في المطبخ بجانب حافظات الملح والبهار والسكر . تنفرد سلة من القش يغطيها قماش خفيف ابيض .. الأم : إنها رائحة الخبز يا صغيري
الطفل : لا يا أمي إنها كريهة
يبدأ يتحرك في أرجاء المطبخ وهو يحرك انفه الصغير في كل ركن من أركانه كأنه احد كلاب البوبي يشمشم ويبحث عن مصدر تلك الرائحة
تتابعه الأم وهي تبتسم لان انفه تتحرك أطرافه بشكل مضحك وتقول له : قد يكون هناك . تلاعبه وهي تمسك بيدها مقلاة البيض وعليه إزار أبيض
عائلة بسيطة وهادئة تمثل أواسط ذلك المجتمع بطبقاته المختلفة. نموذج مكرر لكل أم ولكل طفل ولكل بيت صغير بني مؤخرا على أراضي ذوي الدخل المحدود بقرض حكومي استغرق العمر كله
.. يقترب بأنفه من السلة... ولكن الرائحة تخف يبتعد فتزداد .. يبدو إنها تصدر من نفس الركن الذي فيه السلة.. يحرك عينيه انه يرى قماش ابيض نظيف وسلة تزودهم بخبزهم اليومي
أمي هل يمكن أن يكون الخبز متعفن-
ترفع حاجبيها باستغراب .. وتقترب من السلة وترفع قطعة القماش .. تقترب بأنفها منه تشمشم قليلا ثم تنظر إلى ابنها
لا اعتقد -
مازال الطفل يشك في الأمر.. ولكن الأم تخرج له إحدى القطع في الأعلى وتعطيه إياها .. يشمها وإذا هي طازجة ورائحتها جميلة جدا .. إذن من أين تصدر تلك الرائحة .. يأكل الخبز وينطلق سريعا يصيح في إخوته : الفطور الفطور جاهز
تحضر الأم الأطباق والخبز الذي اختارته بعناية بعد أن أثار ولدها الشكوك لديها ..يلتهمون الطعام وهم على عجلة فذلك ينتظره الباص . والأخرى تنتظرها سيارة نقل المعلمات .. والأب اكتفى بكوب من الشاي وخرج إلى عمله
أخذت الأم تجمع الأطباق وتحملها إلى المطبخ . والخادمة مازالت منشغلة بتنظيف الغرف
مدام مدام -
تحضر الأم إلى الخادمة : ماذا هناك؟ تمد إليها الخادمة بمجلات وجدتها تحت سرير الابن الأكبر .. تنظر الأم إليها باستغراب ... وتقول لها ارميها في سلة المهملات.. تعود الأم إلى المطبخ وهي تفكر إن ولدي لا يمكن أن يفعل ذلك . انه دائم الذهاب إلى المسجد . انه حديث العائلة بأخلاقه
ما أن تنتهي من غسيل الأطباق حتى ذهبت إلى غرفة الغسيل وأخذت تفرغ الملابس من الأغراض لكي تبدأ بتنظيفها .... تتفاجأ بجهاز جوال في احد بناطيل الجينز الخاصة بابنتها ... ليس هذا جهازها اعتقد إنها نسيته .. ولكنني رأيت في يدها جهاز آخر عندما خرجت .. تحدث نفسها وهي ذاهبة إلى هاتف المنزل لكي تطلب ابنتها ترد الفتاة ويبدو أنها مازالت في الطريق الطويل إلى تلك المدرسة في المنطقة النائية
نعم يا ماما -
إذا كان جوالك معك لمن الجوال اللي هنا تصمت الفتاة لفترة ثم تجاوب أمها -
نعم يا أمي ارفعيه في رف مكتبتي فهو لإحدى صديقاتي كانت قد طلبت مني أن أغير لها نغماته -
حسنا حسنا -
في سلامة الله انتبهي لنفسك -
باي ماما -
تعود الام الى غرفة ابنتها وهي تقلب في الجهاز مستغربة لهذه القائمة من الأسماء: فوفو .. ميمي .. جوجو .. عوعو .. نونو
تدعو من الله أن يحفظ ابنتها من صديقتها هذه لان الريبة قد دخلت نفسها .. وتحدث نفسها الله يستر على ابنتي حتى تتزوج فلقد تقدم لها الكثير لأنها ابنة عائلة كريمة والكل يعرف أخلاقها في المدرسة وفي الحارة وفي العائلة.. وفي الصيف سوف يكون زواجها من احدهم .. تعود وتكمل الغسيل وتنادي على الخادمة .. التي تأتي مسرعة وتقول لها: أكملي هنا أريد أن ارتاح قليلا
تذهب إلى غرفتها حيث تستلقي قليلا على سريرها وما أن انقلبت على جانبها حتى رأت طرف حقيبة من تحت السرير .. مدت يدها وأخرجتها . إنها حقيبة زوجها معبأة بملابس السفر.. تقفز مرة أخرى من سريرها.. إلى الهاتف
الو أبو محمد -
هل أنت تنوي السفر وجدت حقيبتك مجهزة -
نعم نعم سأذهب مع احد الأصدقاء إلى دولة مجاورة -
متى ..؟ -
في نهاية الأسبوع لدينا معرض تجاري نريد المشاركة به -
جميل سأعد لك قائمة ببعض الأشياء التي أود منك شرائها لي من هناك -
أنتي تأمرين أمر .. ولكن ارجعي الحقيبة إلى مكانها وأبعديها عن الأولاد -
حسنا -
مع السلامة -
مع السلامة -
تنهض وتعود إلى غرفتها وتحمل الحقيبة وتضعها في حد الإدراج العليا ..وتعود إلى الصالة ويبدو انه لن يكتب لها الراحة .. ترفع السماعة على جارتها وتبدأ بالحديث معها.. ويتغير مجرى الحديث فجأة تبدو مرتبكة
!لا ادري اعتقد انه حرام -
ترد الجارة : هذا من الضرورة لحفظ نفسك وزوجك وعائلتك
لا ادري أنا خائفة -
لا عليك كل ما هنالك انك بحاجة إلى ضمان يريح أعصابك -
حسنا ماذا علي أن افعل -
فقط أرسلي لي بضع شعرات من شارب زوجك وأنا أتكفل بالبقية -
جزاك الله كل خير -
ولو هذا من واجبي -
شكرا -
سأتصل عليك بالغد -
حسنا -
مع السلامة -
ينتهي هذا اليوم بسرعة . ويعود الجميع من مدارسهم وزوجها من عمله . يعود الطفل الصغير إلى المطبخ وهو مازال مصمما على أن هنالك رائحة
أمي أمي .. لقد وجدتها -
تحضر الأم إليه وتنظر إليه باستغراب وهو يحمل بيده سلة الخبز مقلوبة وقد اخرج كل ما فيها من خبز
انظري انه العفن بين فجوات القش كان تغطيه رائحة الخبز الطازجة والقماشة البيضاء النظيفة .. يستمر الطفل بالحديث بعد أن أخذت الأم السلة مستغربة وهو يقول : لقد قال لي الأستاذ أن البعض يتعود على بعض الروائح حتى لا يستطيع تمييز روائح غيرها .. واخبرني انه أحيانا كثيرة ينمو العفن داخل الخبز قبل أن يمتد إلى الخارج ويصبح واضحا
.. تمد الأم شفتيها وكأنها تنظر إلى ابنها بإعجاب رافعة حاجبيها، وماذا قال لك أيضا
قال لي أيضا : انه يجب علينا الانتباه جيدا لان الكثير من الأمور مثل العفن تنمو في الداخل ولا نراها حتى تصبح واضحة وقد أتت على كل شيء طازج .. ومن تلك الأمور الأخلاق والعادات السيئة
ترد الأم : إذن اذهب للاستحمام فيبدو أن عفنك قد بدأ بالظهور علينا .. تقول ذلك وهي مبتسمة
يركض الابن سريعا وهو يضحك ويصيح لإخوانه وأبيه : ابعدوا عني أنا معفن معفن
تنظر إليه الأم من باب المطبخ حيث تلتقي عينيها بأعين الجميع .. وفي نفسها شكوك بدأت تتضح ملامحها .. فهذه هي ابنتها تستخدم الجوال الذي قالت انه لصاحبتها .وهاهو الابن يبحث عن مجلاته ويسأل الخادمة همساً ... وهاهو الأب يكلم احدهم من هاتف المنزل ويتجاذب معه بعض الأحاديث عن السفر ومتعته وكم سيكلفهم ذلك .. تدقق في شاربه تنظر إليهم وكأنهم سلة الخبز التي ظهرت روائحها .. وتتذكر ما ستفعله هي مع جارتها
ترتسم على شفتها ابتسامة ساخرة وحزينة .. يبدو أن طفلي الصغير كان محقاً